الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقرأ نافع بن عامر: {سال سائل} ساكنة الألف، واختلفت القراءة بها، فقال بعضهم: هي {سأل} المهموزة، إلا أن الهمزة سهلت كما قال لا هناك المرتع ونحو ذلك. وقال بعض هي لغة من يقول سلت أسأل، ويتساولون، وهي بلغة مشهورة حكاها سيبويه، فتجيء الألف منقلبة من الواو التي هي عين كقال وحاق، وأما قول الشاعر حسان بن ثابت: البسيط: فإن سيبويه قال: هو على لغة تسهيل الهمزة. وقال غيره: هو على لغة من قال: سلت، وقال بعضهم في الآية: هو من سال يسيل: إذا جرى وليست من معنى السؤال، قال زيد بن ثابت: في جهنم واد يسمى سايلا، والاخبار هاهنا عنه.قال القاضي أبو محمد: ويحتمل إن لم يصح أمر الوادي أن يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير له لفظ السيل لما عهد من نفوذ السيل وتصميمه، وقرأ ابن عباس: {سال سيْل} بسكون الياء، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود: {سال سال} مثل قال قال، ألقيت الياء من الخط تخفيفا، والمراد {سائل}. وسؤال الكفار عن العذاب حسب قراءة الجماعة إنما كان على أنه كذب. فوصفه الله تعالى بأنه {واقع} وعيدا لهم. وقوله تعالى: {للكافرين}. قال بعض النحويين: اللام توصل المعنى توصيل {على}. وروي أنه في مصحف أبي بن كعب: {على الكافرين}، وقال قتادة والحسن المعنى: كأن قائلا قال لمن هذا العذاب الواقع؟ فقيل {للكافرين}. و{المعارج} في اللغة الدرج في الأجرام، وهي هنا مستعارة في الرتب والفواضل والصفات الحميدة، قاله قتادة وابن عباس. وقال ابن عباس: {المعارج} السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء. وقال الحسن: هي المراقي إلى السماء، وقوله: {تعرج الملائكة} معناه: تصعد على أصل اللفظة في اللغة. {والروح} عند جمهور العلماء: هو جبريل عليه السلام خصصه بالذكر تشريفا.وقال مجاهد: {الروح} ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة. وقال بعض المفسرين: هو اسم الجنس في أرواح الحيوان. واختلف المتأولون في قوله تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}. فقال منذر بن سعيد وجماعة من الحذاق: المعنى {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم} من أيامكم هذه مقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة، وقاله ابن إسحاق فمن جعل {الروح} جبريل أو نوعا من الملائكة قال: المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش، قاله مجاهد. ومن جعل {الروح} جنس الحيوان قال المسافة من وجه هذه الأرض إلى منتهى العرش علوا، قاله وهب بن منبه. وقال قوم المعنى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره} في نفسه {خمسين ألف سنة} من أيامكم، ثم اختلفوا في تعيين ذلك اليوم، فقال عكرمة والحكم: أراد مدة الدنيا فإنها خمسون ألف سنة، لا يدري أحد ما مضى منها ولا ما بقي، فالمعنى {تعرج الملائكة والروح إليه} في مدة الدنيا، وبقاء هذه البنية ويتمكن على هذا في {الروح} أن يكون جنس أرواح الحيوان، وقال ابن عباس وغيره: بل اليوم المشار إليه يوم القيامة ثم اختلفوا، فقال بعضهم قدره في الطول قدر خمسين ألف سنة، وهذا هو ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له صفائح من نار يوم القيامة، تكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره ألف سنة». وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: بل قدره في هوله وشدته ورزاياه للكفار قدر {خمسين ألف سنة}. وهذا كما تقول في اليوم العصيب، إنه كسنة ونحو هذا قال أبو سعيد، قيل يا رسول الله ما أطول يوما مقداره خمسون ألف سنة، فقال: «والذي نفسي بيده ليخف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة»، وقال عكرمة: المعنى كان مقدار ما ينقضي فيه من القضايا والحساب قدر ما ينقضي بالعدل في {خمسين ألف سنة} من أيام الدنيا. وقد ورد في يوم القيامة أنه كألف سنة وهذا يشبه أن يكون في طوائف دون طوائف. والعامل في قوله: {في يوم} على قول من قال إنه يوم القيامة قوله: {دافع} وعلى سائر الأقوال {تعرج}، وقرأ جمهور القراء: {تعرج} بالتاء من فوق، وقرأ الكسائي وحده: {يعرج} بالياء لأن التأنيث بالياء غير حقيقي، وبالياء من تحت قرأ ابن مسعود لأنه كان يذكر الملائكة وهي قراءة الأعمش، ثم أمر تعالى نبيه بالصبر الجميل، وهو الذي لا يلحقه عيب من فشل ولا تشكك ولا قلة رضى ولا غير ذلك.والأمر بالصبر الجميل محكم في كل حالة، وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال. وقوله تعالى: {إنهم يرونه بعيدا} يعني يوم القيامة لأنهم يكذبون به، فهو في غاية البعد عندهم، والله تعالى يراه {قريبا} من حيث هو واقع وآت وكل آت قريب. وقال بعض المفسرين: الضمير في {يرونه} عائد على العذاب. وقوله تعالى: {يوم تكون} نصب بإضمار فعل أو على البدل من الضمير المنصوب. و(المهل): عكر الزيت قاله ابن عباس وغيره، فهي لسوادها وانكدار أنوارها تشبه ذلك. والمهل أيضا: ماء أذيب من فضة ونحوها قاله ابن مسعود وغيره: فيجيء له ألوان وتميع مختلط، والسماء أيضا- للأهوال التي تدركها- تصير مثل ذلك، و(العهن): الصوف دون تقييد. وقد قال بعض اللغويين: هو الصوف المصبوغ ألوانا، وقيل المصبوغ أي لون كان، وقال الحسن: هو الأحمر، واستدل من قال إنه المصبوغ ألوانا بقول زهير: الطويل: وحب الفنا هو عنب الثعلب، وكذلك هو عند طيبه، وقبل تحطمه ألوان بعضه أخضر، وبعضه أصفر، وبعضه أحمر، لاختلافه في النضج، وتشبه {الجبال} به على هذا القول لأنها جدد بيض وحمر وسود فيجيء التشبيه من وجهين في الألوان وفي الانتفاش. ومن قال إن العهن: الصوف دون تقييد، وجعل التشبيه في الانتفاش وتخلخل الأجزاء فقط. قال الحسن: والجبال يوم القيامة تسير بالرياح ثم يشتد الأمر فتنهد ثم يشتد الأمر بها فتصير هباء منبثا. وقرأ السبعة والحسن والمدنيون وطلحة والناس: {ولا يسأل} على بناء الفعل للفاعل، والحميم في هذا الموضع: القريب والوالي، والمعنى لا يسأله نصرة ولا منفعة لعلمه أنه لا يجدها عنده، قال قتادة: المعنى لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة قد بصر كل أحد حالة الجميع، وشغل بنفسه. وقرأ ابن كثير من طريق البزي وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهما وأبو حيوة {لا يُسأل} على بناء الفعل للمفعول. فالمعنى: ولا يسأل إحضاره لأن كل مجرم له سيما يعرف بها، وكذلك كل مؤمن له سيما خير. وقيل المعنى: لا يسأل عن ذنبه وأعماله ليؤخذ بها وليزر وزره. و{يبصرونهم} على هذه القراءة قيل معناه في النار. وقال ابن عباس في المحشر يبصر بالحميم حميمه ثم يفر عنه لشغله بنفسه. وتقول: بصر فلان بالشيء، وبصرته به أريته إياه ومنه قول الشاعر: الوافر: وقرأ قتادة بسكون الباء وكسر الصاد خفيفة، فقال مجاهد: {يبصرونهم} معناه يبصر المؤمنون الكفار في النار، وقال ابن زيد: يبصر الكفار من أضلهم في النار عبرة وانتقاما عليهم وخزيا لهم.{يُبصّرُونهُمْ يودُّ الْمُجْرِمُ لوْ يفْتدِي مِنْ عذابِ يوْمِئِذٍ بِبنِيهِ (11)}{المجرم} في هذه الآية الكافر بدليل شدة الوعد وذكر {لظى} وقد يدخل مجرم المعاصي فيما ذكر من الافتداء، وقرأ جمهور الناس: {يومئذ} بكسر الميم، وقرأ الأعرج بفتحها، ومن حيث أضيف إلى غير متمكن جاز فيه الوجهان. وقرأ أبو حيوة {من عذابٍ} منونا {يومئذ} مفتوح الميم، والصاحبة: هنا الزوجة، والفصيلة في هذه الآية قرابة الرجل الأدنون، مثال ذلك بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وسلم، والفصيلة في كلام العرب: أيضا الزوجة، ولكن ذكر الصاحبة في هذه الآية لم يبق في معنى الفصيلة إلا الوجه الذي ذكرناه. وقوله: {ثم ينجيه} الفاعل هو الفداء الذي تضمنه قوله: {لو يفتدي} فهو المتقدم الذكر. وقرأ الزهري {تؤويهُ} و{تنجيهُ} برفع الهاءين، وقوله تعالى: {كلا إنها لظى} رد لقولهم وما ودوه أي ليس الأمر كذلك، ثم ابتدأ الإخبار عن {لظى} وهي طبقة من طبقات جهنم، وفي هذا اللفظ تعظيم لأمرها وهولها. وقرأ السبعة والحسن وأبو جعفر والناس: {نزاعةٌ} بالرفع، وقرأ حفص عن عاصم: {نزاعة} بالنصب، فالرفع على أن تكون {لظى} بدلا من الضمير المنصوب، {ونزاعةُ} خبر (إن) أو على إضمار مبتدأ، أي هي نزاعة او على أن يكون الضمير في {إنها} للقصة، و{لظى} ابتداء و{نزاعةٌ} خبره، أو على أن تكون {لظى} خبر و{نزاعةٌ} بدل من {لظى}، أو على أن تكون {لظى} خبرا و{نزاعةٌ} خبرا بعد خبر. وقال الزجاج: {نزاعةٌ}، رفع بمعنى المدح.قال القاضي أبو محمد: وهذا هو القول بأنها خبر ابتداء تقديره هي نزاعة، لأنه إذا تضمن الكلام معنى المدح أو الذم جاز لك القطع رفعا بإضمار مبتدأ أو نصبا بإضمار فعل. ومن قرأ بالنصب فذلك إما على مدح {لظى} كما قلنا، وإما على الحال من {لظى} لما فيها من معنى التلظي، كأنه قال: كلا إنها النار التي تتلظى نزاعة، قال الزجاج: فهي حال مؤكدة و: (الشوى) جلد الإنسان، وقيل جلد الرأس الهامة، قاله الحسن. ومنه قول الأعشى: مجزوء الكامل: ورواه أبو عمرو بن العلاء سراته فلا شاهد في البيت على هذه الرواية. قال أبو عبيدة: سمعت أعرابيا يقول اقشعرت شواتي، و(الشوى) أيضا: قوائم الحيوان، ومنه عبل الشوى، و(الشوى) أيضا: كل عضو ليس بمقتل، ومنه رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل، وقال ابن جرير: (الشوى) العصب والعقب، فنار لظى تذهب هذا من ابن آدم وتنزعه.وقوله تعالى: {تدعو من أدبر وتولى} يريد الكفار، واختلف الناس في دعائها، فقال ابن عباس وغيره: هو حقيقة تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقال الخليل بن أحمد هي عبارة عن حرصها عليهم واستدنائها لهم، وما توقعه من عذابها، وقال ثعلب: {تدعو}، معناه: تهلك، تقول العرب: دعاك الله أي أهلكك، وحكاه الخليل عن العرب، و{أوعى} معناه: جعلها في الأوعية تقول: وعيت العلم وأوعيت المال والمتاع، ومنه قول الشاعر عبيد بن الأبرص: البسيط: وهذه إشارة إلى كفار أغنياء جعلوا جمع المال أوكد أمرهم، ومعنى حياتهم فجمعوه من غير حل ومنعوه من حقوق الله، وكان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه، ويقول: سمعت الله تعالى يقول: {وجمع فأوعى}. اهـ.
|